الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الأول: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113].الثاني: قوله في سورة الممتحنة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم} [الممتحنة: 4] إلى قوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] وأمر الناس إلا في هذا الفعل فوجب أن يكون ذلك معصية منه، والجواب: لا نزاع إلا في قولكم الاستغفار للكافر لا يجوز فإن الكلام عليه من وجوه: أحدها: أن القطع على أن الله تعالى يعذب الكافر لا يعرف إلا بالسمع، فلعل إبراهيم عليه السلام لم يجد في شرعه ما يدل على القطع بعذاب الكافر فلا جرم استغفر لأبيه.وثانيها: أن الاستغفار قد يكون بمعنى الاستماحة، كما في قوله: {قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [الجاثية: 14] والمعنى سأسأل ربي أن لا يجزيك بكفرك ما كنت حيًا بعذاب الدنيا المعجل.وثالثها: أنه عليه السلام إنما استغفر لأبيه لأنه كان يرجو منه الإيمان فلما أيس من ذلك ترك الاستغفار ولعل في شرعه جواز الاستغفار للكافر الذي يرجي منه الإيمان، والدليل على وقوع هذا الاحتمال قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم} [التوبة: 113] فبين أن المنع من الاستغفار إنما يحصل بعد أن يعرفوا أنهم من أصحاب الجحيم.ثم قال بعد ذلك: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] فدلت الآية على أنه وعده بالاستغفار لو آمن، فلما لم يؤمن لم يستغفر له بل تبرأ منه، فإن قيل فإذا كان الأمر كذلك فلم منعنا من التأسي به في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم} [الممتحنة: 4] إلى قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] قلنا الآية تدل على أنه لا يجوز لنا التأسي به في ذلك لكن المنع من التأسي به في ذلك لا يدل على أن ذلك كان معصية.فإن كثيرًا من الأشياء هي من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لنا التأسي به مع أنها كانت مباحة له عليه السلام.ورابعها: لعل هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى وحسنات الأبرار سيئآت المقربين، أما قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا} أي لطيفًا رفيقًا يقال أحفى فلان في المسألة بفلان إذا لطف به وبالغ في الرفق، ومنه قوله تعالى: {وإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ} [محمد: 37] أي وإن لطفت المسألة والمراد أنه سبحانه للطفه بي وإنعامه عليّ عودني الإجابة فإذا أنا استغفرت لك حصل المراد فكأنه جعله بذلك على يقين إن هو تاب أن يحصل له الغفران.الجواب الثاني من الجوابين قوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} الاعتزال للشيء هو التباعد عنه والمراد أني أفارقكم في المكان وأفارقكم في طريقتكم أيضًا وأبعد عنكم وأتشاغل بعبادة ربي الذي ينفع ويضر والذي خلقني وأنعم علي فإنكم بعبادة الأصنام سالكون طريقة الهلاك، فواجب على مجانبتكم ومعنى قوله: {عسى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا} أرجو أن لا أكون كذلك، وإنما ذكر ذلك على سبيل التواضع كقوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] وأما قوله: {شَقِيًّا} مع ما فيه من التواضع لله ففيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم على ما قرره أولًا في قوله: {لَمْ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42].{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)}.اعلم أنه ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزلهم في دينهم وفي بلدهم واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره لم يضره ذلك دينًا ودنيا، بل نفعه فعوضه أولادًا أنبياء ولا حالة في الدين والدنيا للبشر أرفع من أن يجعل الله له رسولًا إلى خلقه ويلزم الخلق طاعته والانقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة فصار جعله تعالى إياهم أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة، ثم بين تعالى أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته أي وهب لهم من النبوة ما وهب ويدخل فيه المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة ثم قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان، كما عبر باليد عما يعطي باليد وهو العطية، واستجاب الله دعوته في قوله: {واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ في الأخرين} [الشعراء: 84] فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم وقال عز وجل: {مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} [الحج: 78] {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} [النحل: 123] قال بعضهم: إن الخليل اعتزل عن الخلق على ما قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48] فلا جرم بارك الله في أولاده فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَكُلًا جَعَلْنَا نَبِيًّا}.وثانيها: أنه تبرأ من أبيه في الله تعالى على ما قال: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] لا جرم أن الله سماه أبًا للمسلمين فقال: {مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} [الحج: 78].وثالثها: تل ولده للجبين ليذبحه على ما قال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] لا جرم فداه الله تعالى على ما قال: {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107].ورابعها: أسلم نفسه فقال: {أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين} [البقرة: 131] فجعل الله تعالى النار عليه بردًا وسلامًا فقال: {قُلْنَا يا نَّارُ كُونِى بَرْدًا وسلاما على إبراهيم} [الأنبياء: 69].وخامسها: أشفق على هذه الأمة فقال: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولًا مّنْهُمْ} [البقرة: 129] لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات الخمس، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.وسادسها: في حق سارة في قوله: {وإبراهيم الذي وفى} [النجم: 37] لا جرم جعل موطىء قدميه مباركًا: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} [البقرة: 125].وسابعها: عادى كل الخلق في الله فقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77] لا جرم اتخذه الله خليلًا على ما قال: {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلًا} [النساء: 125] ليعلم صحة قولنا أنه ما خسر على الله أحد. اهـ.
الثاني: سويًا سليمًا من عقوبتي، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وعطاء.الثالث: حينًا، قاله عكرمة.قوله تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيكَ} هذا سلام إبراهيم على أبيه، وفيه وجهان:أحدهما: أنه سلام توديع وهجر لمقامه على الكفر، قاله ابن بحر.الثاني: وهو أظهر أنه سلام بر وإكرام، فقابل جفوة أبيه بالبر تأدية لحق الأبوة وشكرًا لسالف التربية.ثم قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} وفيه وجهان:أحدهما: سأستغفر لك إن تركت عبادة الأوثان.الثاني: معناه سأدعوه لك بالهداية التي تقتضي الغفران. {إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} فيه خمسة أوجه:أحدها: مُقَرِّبًا.الثاني: مُكْرِمًا.الثالث: رحيمًا، قاله مقاتل.الرابع: عليمًا، قاله الكلبي.الخامس: متعهدًا.قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}.فيه وجهان:أحدهما: جعلنا لهم ذكرًا جميلًا وثناءً حسنًا، قاله ابن عباس، وذلك أن جمع الملك بحسن الثناء عليه.الثاني: جعلناهم رسلًا لله كرامًا على الله، ويكون اللسان بمعنى الرسالة: قال الشاعر: ويحتمل قولًا ثالثًا أن يكون الوفاء بالمواعيد والعهود. اهـ.
وقال آخر: الوافر: وإبراهيم الخليل وبنوه معظمون في جميع الأمم والملل صلى الله عليهم أجمعين. اهـ.
|